إستلقى على ظهره فوق فراشه، يزفر دخان سيجارته في غيظ .. متنمنياً أن تخرج روحه مع إحدى تلك الزفرات. و لكن للأسف، هذا لا يحدث. لا هواء في تلك الفترة من العام .. لذا فعلى الرغم من نافذته المفتوحة، يقبع الدخان بلا حراك فوق صدره تماماً .. فيزيده إختناقاً. بقى على وضعه هذا لدقائق خمسِ متصلة لا مبالياً برماد سيجارته و هو يحرق الفراش من تحته، بدا له هذا و كأنما يعوضه عن إحتراق أعصابه الذى لم يفارقه منذ الصباح. بدت له الموسيقى التى يعشقها و كأنها طبول مزعجة تدق في رأسه .. لا يمتلك القدرة و لا الحماسة ليخمدها بضغطة من أصابعه على زر من الأزرار. للمرة الألف يستعيد يومه الكئيب بكل تفاصيله، ثم يبتسم ساخراً من نفسه و من حياته بأسرها، كم يعبر هذا اليوم عن العشرون عاماً المنقضية من حياته بكل دقة.
"كلا بل هو لا يعبر عن حياته البتة"
--------------------------------------------------------------------------
تجلس فى مكانها المعتاد أعلى درجات السلم الذى يعطيها رؤية بانورامية للمكان. يلتفون حولها كالمعتاد .. حديثهم ظريف، كلماتهم مضحكة و جميعهم يحبونها .. كلا، بل هى فقط تحاول إقناع نفسها بذلك. ما كل تلك السخافة و السطحية التى تقطر منهم ؟ مَنْ منهم حقاً يستمتع بصحبتها ؟ هى مجرد إستراحة يلجأون إليها بين محطات حياتهم الحقيقية. ولكنها ستبقى جالسة هنا للأبد، بلا محطة واحدة بإنتظارها لتكون بها فى الموعد المحدد. تلتفت يميناً، فترى إنعكاس وجهها العابس في عينيه الواسعتين، دائماً ما شعرت أن سواد عينيه ما هو إلا مرآة لروحها فقط .. لا لأى شئ أخر. تسارع فى الإبتسام متذكرة كلماته .. عندما أخبرها أنه لا يراها جميلة إلا و هى مبتسمة، فيبتسم هو الآخر. إلي متى ستظل وسيلة لإسعاد الآخرين و تسليتهم ؟ ترفع عينيها فترى إعلان عن المقهى الجديد .. أفضل مكان للتسلية بالمدينة، هذا ما تفتق عنه ذهن مصمم الإعلان السخيف. لكن على الرغم من ركاكة الإعلان الشديدة، فهو يعبر عن حياتها بكل دقة.
"كلا بل هو لا يعبر عن حياتها البتة"
--------------------------------------------------------------------------
ينظر للجميع من مكانه فى مقدمة قاعة الدرس، لا يبدو أن أحدهم يفهم شيئاً. يستدير و يواصل الشرح بصوته الجهورى .. لا مبالياً بالسؤال عما يستعصى عليهم. أخيراً إنتهى .. أستدار لهم .. و شرد للحظات. نصف قرن منذ وُلد .. ربع قرن منذ بدأ تلك المهنة التى عشقها لسبب واحد، تفوق في جميع الإختبارات، أوجد الحل لأصعب المعادلات. نظر مرة أخرى إلى سبورته .. مليئة بعلامات الضرب و الطرح، مليئة بالكسور و الجذور التربيعية، جميع المعادلات بإجابتها النموذجية، إلا واحدة .. لم تكتب على السبورة قط .. بل كٌتبت فى قلبه منذ البداية .. معادلة حياته. كم تعبر تلك المعادلات المعقدة عن حياته بكل دقة.
"كلا بل هي لا تعبر عن حياته البتة"
--------------------------------------------------------------------------
تخشى أن تغفو للحظات، أو تفقد تركيزها لثوانٍ .. فتفقد حياتها ولا تعود من غفوتها مجدداً. تزيد من سرعتها الجنونية لا مباليةً بإرهاقها الشديد. قطعت عشرات الكيلومترات منذ بدأت رحلتها تلك .. و على الرغم من ذلك لا يزال أمامها ما يربو عن المائة. تضغط نفير سيارتها بكل ما تملك من قوة، لا شئ يعترض طريقها يستدعى ذلك، ربما فقط أرادت أن تمنع نفسها من الصراخ "ما كل هذا العبث ؟". هكذا حياتها دائماً .. مسافات طويلة تقطعها .. ولا تصل لشئ يستحق ما تكبدته فى رحلتها. يا إلهي .. تدمع عيناها "ما كل هذا العبث؟" .. كم يذكرها بالماضى من حياتها. حقاً، إن تلك المسافة العبثية التى تقطعها الآن منذ بدأت رحلتها تعبر عما إنقضى من حياتها بكل دقة.
"كلا بل هي لا تعبر عن حياتها البتة"
-------------------------------------------------------------------------
يراه فى وضوح .. حركاته العصبية على المسرح .. إشارات يده التلقائية .. إعتصاره للمايكرفون بيسراه .. شعره المبعثر .. سلاسله تتدلى من عنقه .. ملابسه التى تبدو متنافرة، و لكنها دائماً ما يراها محبيه متناسقة. كل هذا يعبر عن فلسفة خاصة، سيظل هو "ملك" هذه الفلسفة التى لن يفهمها الكثيرون. تجاعيد وجهه الكثيرة، تدل كل واحدة منهم عن خبرة نادرة فى الحياة. تبدو كل عضلات جسده و كأنما ترقص كل واحدة منهم رقصتها الخاصة .. المستقلة، لكنها لا تخرج أبداً عن الإيقاع المثالى.
يغلق عينيه عن كل هذا .. و يتمايل على صوت الموسيقى التى دائماً ما تعلو بين كلمات الملك .. فى نشوة. يرفع رأسه ليأخذ نفساً عميقا من الهواء البارد .. يملأ به صدره .. يساعده على تطهير روحه. يبتسم فى سعادة، و يستعد للكلمات التالية التى يحفظها عن ظهر قلب.
قلب الحياة جواه بنورة مسحورة
قلب الحياة مليان أحلام صغيورة
مش كل شئ بيفوت فى عمرنا بيجرح
قلب الحياة مليان حاجات و بتفرح
"فهى حقاً تعبر عن حياته بكل دقة"
---
